مما يجب أنْ تقف عنده متأملاً قوله تعالى : ((يوم تبلى السرائر)) .
والمرادُ بها أمانةُ التكليفِ فيما لا يعلمه إلاَّ اللَّه ، ويَدخلُ في ذلك الطهارة للصلاة ، وغسلُ الجنابة ، وحفظُ الصوم ، ونحو ذلك . ومنها العقائدُ وصدقُ الإيمان أو النفاق ، عياذاً باللَّه .
و((يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ)) أي : تختبر سرائر الصدور ، ويظهر ما كان في القلوب من خير وشر على صفحات الوجوه قال تعالى : ((يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ)) وقال تعالى : ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة)) ففي الدنيا ، تنكتم كثيرٌ من الأمور ، ولا تظهرُ عَيانًا للناس ، وأمَّا في القيامة ، فيظهرُ برُ الأبرار ، وفجورُ الفجار ، وتصيرُ الأمور علانيةً والحقائقُ مكشوفةً .
قال عبد الله بن عمر : يُبديء اللهُ تعالى يوم القيامة كلَّ سرٍّ ، فيكون زَيناً في وجوهٍ وشيناً في وجوه ، يعني : من أدى الفرائض كما أُمر كان وجهُهُ مشرقاً ، مُستنيراً يومَ القيامة ، ومنْ ضيّعها أو انتقصَ منها كان وجهُهُ أغبرَ .
قال ابن العربي : قال مالك : في رواية أشهب عنه وسَأله عن قوله تعالى : ((يوم تبلى السرائر)) أبَلغَك أنَّ الوضوءَ من السرائر ؟ قال : قد بلغني ذلك فيما يقول النَّاس ، فأمَّا حديثٌ أخذتُهُ فلا . والصلاةُ من السرائر والصيامُ من السرائر ، إن شاء قال : صليتُ ولم يصل . ومن السرائر ما في القلوب يجزي الله به العباد .
(يَوْمَ تُبْلى السّرَائِرُ) يوم تُخْتَبرُ سرائرُ العباد ، فيظهر منها يومئذٍ ما كان في الدنيا مستخفياً عن أعين العباد ، من الفرائض التي كان الله ألزمه إياها ، وكلّفه العمل بها .
((يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ)) أي : تكشف ضمائر القلوب في النيّات ومستورات الأفعال ، وهي جمعُ سريرة بمعنى مسرورة ، وكأنَّ الإنسانَ يُسرُ بمسروراته وخواطره ، وكشفُها أظهارُ الحسنِ والقبيحِ لصاحبه والتمييزُ بينهما ؛ ليحاسب على مثاقيل الذر .
و((تبلى)) تختبر وتكشف ((السرائر)) أي : ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيّات وغيرهما وما أخفى الأعمال ، وذلك يوم القيامة ، وبلاؤها تعّرفُها وتصفُحها والتمييزُ بين ما طاب منها وما خبُث . وعن الحسن البصري أنَّه سمع رجلاً ينشد :
سيبقى لها في مضمر القلب والحشا *** سريرة ودّ يوم تبلى السرائر
فقال : ما أغفله عما في (والسماء والطارق) .
((يوم تبلى السرائر)) : أي يكشف عن النيّات التي بها تعبّدهم الله فيما فرض عليهم ونهاهم عنه ، وأعمال العباد يوم القيامة موقوفة على مقاصدهم . ولقد كان الربيع يقول : السرائر التي تخفى على الناس ، وهي لله بوادٍ ، التمسوا دواءهن . ثم يقول : وما دواؤهن ؟ هو أنْ يتوب ثم لا يعود . حتى قال سهل : آلة الفقير ثلاثة أشياء : أداء فرضه وصيانة فقره وحفظ سرّه .
وفي الآية أنَّ الله يفضحُ العاصي بما كان يسرُّ من معاصيه ، وفيها أنَّه يظهر سرُّ كلِ إنسان ، ويبدو أثرُهُ على وجهه .
وما أحسن قول ابن كثير عند الآية الخامسة والثلاثين بعد المئتين من سورة البقرة في تفسيره النفيس إذا قال : ((وَقَوْلُهُ : ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ)) تَوَعَّدَهُمْ عَلَى مَا يَقَعُ فِي ضَمَائِرِهِمْ مِنْ أُمُورِ النِّسَاءِ ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى إِضْمَارِ الْخَيْرِ دُونَ الشَّرِّ ، ثُمَّ لَمْ يُؤْيِسْهُم منْ رَحِمَتْهُ ، وَلَمْ يُقْنطهم مِنْ عَائِدَتِهِ ، فَقَالَ : ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)))) .