قال مسلم في صحيحه :
[470] حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ سُحَيْمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ السِّتَارَةَ، وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ، أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ؛ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ». قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُلَيْمَانَ.
[470/1] حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ سُحَيْمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ السِّتْرَ، وَرَأْسُهُ مَعْصُوبٌ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: «إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا يَرَاهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ، أَوْ تُرَى لَهُ»… ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ سُفْيَانَ.
الشرح والبيان
المعنى الإجمالي :
قوله : ( حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ ) هو سعيد بن منصور بن شعبة ، أبو عثمان الخراساني نزيل مكة ، ثقة مصنف ، كان لايتراجع عما كتبه ، لشدة وثوقه (ت 227) .
( وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ) هو عبدالله بن محمد بن أبي شيبة ، إبراهيم بن عثمان العبسي مولاهم ، أبو بكر الكوفي واسطي الأصل ، ثقة حافظ ، صاحب تصانيف ( ت235) .
( وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ ) وهو زهير بن حرب بن شداد الحَرَشي أبو خيثمة ، النّسائي نزيل بغداد ، مات سنة (234) .
( قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ) هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران الهلالي مولاهم ، أبو محمد الكوفي ، ثم المكي ، ثقة ثبت حجة ، مات سنة 198.
( قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ سُحَيْمٍ ) هو أبو أيوب المدني ، مولى خزاعة ، ويقال : مولى آل حُنَين ، صدوق ، مات في خلافة أبي جعفر المنصور .
( عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ ) هو إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي المدني ، صدوق ، له في صحيح مسلم حديثان فقط .
( عَنْ أَبِيهِ ) هو عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي المدني ، ثقة قليل الحديث ، وثقه أبو زرعة وذكره ابن حبان في الثقات ، وليس له في صحيح مسلم إلا هذا الحديث .
( عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ السِّتَارَةَ ) أي : السترة التي كانت على باب حجرة النّبي ﷺ الذي يدخل منه إلى المسجد النّبوي ، ( وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ ) أي : كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يصلي إماماً بالنّاس ، وكان ذلك في مرض موته عليه الصلاة والسلام ، كما جاء ذلك صريحاً في الرواية الثانية ، وفيها : ( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ السِّتْرَ، وَرَأْسُهُ مَعْصُوبٌ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ ) ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ ) ( المبشرات) جمع مبشرة ، من التبشير وهو إدخال السرور والفرح على المبشَّر ، والمراد : أنَّ الوحي ينقطع بموته ﷺ ، ولا يبقى ما يعلم منه ما سيكون إلا الرؤيا ، ( يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ ) أي : يراها هو بنفسه أو يراه أحد في الرؤيا ، أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ ) جاء الأمر بتعظيم الله في الركوع ، خضوعاً لعظمته ، واستكانةً لهيبته ، وفي هذا الركن من المعاني العظيمة ما لا يعلمها إلا الله تعالى ، فحين يقول العبد سبحان ربي العظيم – وهذا تعظيم باللسان – وهو في ذلك الحين حانياً لظهره مطأطئاً لرأسه ، موقناً بقلبه أنَّ الله
تعالى هو العظيم المستحق للعبودية ، فإنَّه قد اجتمع له في ذلك خضوع القلب وخضوع الجوارح ، ومن آثار الركوع أنَّه يزيل الكبر والتعالي من قلب العبد ، فيكون الكبرياء والعلياء لله تعالى وحده لا شريك له ، فكلما استولى على قلب العبد تعظيمٌ الله تعالى خرج منه تعظيم النفس والخلق ، وحينئذ تتبع الجوارحُ القلبَ في هذا الأمر ، وكلما أكثر العبد من الركوع والسجود كان ذلك أدعى لتوفيقه وفلاحه كما في قول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)) [ الحج ] ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ؛ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ») وذلك لأنَّه ليس هناك فعل يقرِّب العبد من ربه مثل السجود ، وعند هذا القرب شرع له أنْ يتقدم إلى ربه بسؤال حاجته من رب كريم جواد ، لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء ، سؤال يطلبه العبد في حالة من الخشوع والتذلل والقرب ممن خزائنه ملأى ، ويداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ، وكلتا يديه يمين ، وممن كل يوم هو في شأن ، وممن إذا لم يسأل غضب ، وممن لو أنَّ الجنَّ والإنس قاموا على صعيد واحد ، فسألوه ، فأعطى كل واحد منهم مسألته ، لم ينقص مما عنده ، إلا كمثل المخيط إذا أدخل البحر.
والسجود في اللغة : تمام الطاعة والخضوع ، ويتماثل فيه المعنى الحقيقي مع المعنى اللغوي ، إذ إنَّ الساجد لله تعالى مطيعٌ له وخاضعٌ تمام الخضوع .
من فوائد الحديث :
1ــ جاء في الحديث بيان ما ينبغي على المؤمن قوله إذا ركع في الصلاة ، وهو تعظيم الله تعالى ، وقد ورد في ذلك أكثر من ذكر ، من ذلك : ( سبحان ربي العظيم وبحمده ) .
2ــ دلّ الحديث على مدى حرص النّبي ﷺ على أصحابه وأمّته حتى لا يضلوا بعده ، حتى إنَّه في مرضه الذي مات فيه كان يوصي بالصلاة والتمسك بالكتاب والسنّة ؛ لأنَّ النّجاة لا تكون إلا في ذلك ، فالواجب على المؤمن أنْ يتمسك بما تمسك به النّبيُّ ﷺ وأصحابه من بعده ، لعله يحشر معهم يوم القيامة .
3ــ ينبغي على المؤمن الذي يرجو أنْ تُستجاب دعوته أنْ يتحرى مواطن إجابة الدعاء ؛ فيكثر فيها من دعاء الله تعالى وطلبِ العون منه ، وأرجى موضع تستجاب فيه الدعوات حين يكون العبد ساجداً لربه في صلاته ؛ وذلك لقرب العبد من ربه وصدقه في مناجاته في السجود .
4ــ في هذا الحديث دليل على تحقق وقوع الرؤيا الصالحة التي يراها العبد الصالح، وذلك لأنَّها من النبوة ، والأنبياء لا يوحى إليهم إلا بالحق الذي لا مرية فيه .
5ــ فيه دليل على أنَّه يشرع للمؤمن أنْ يفرح ويستبشر بما يستقبله من الخير ، ولا شك في أنَّ هذا الاستبشار والسرور ينشِّط المؤمن على طاعة الله سبحانه وتعالى .
6ــ دلّ الحديث على علو مكانة أبي بكر الصديق رضي الله عنه عند النّبيﷺ ، حيث أمر بأنْ يكون إماماً بالنّاس من بعده ، وفيه إشارة لأنْ يكونَ هو الخليفةُ من بعده .